يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريّة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة”
كان هذا الحديث ولازال يمثل السند الأقوى للحالمين بعودة الخلافة الإسلامية بعد أفولها سنة 1924، بل وشكّل حجر الأساس لظهور عدد من الحركات الإسلامية الصحوية التي وضعت استعادت الخلافة الإسلامية في صميم برامجها الدينية والسياسية، ولعل حركة الإخوان وحزب التحرير يقفان أول نموذج عن هذه الحركات التي أولت أهمية خاصة لهذا الحديث، في مقابل هاتين الحركتين يقف نموذج آخر استلهم هذا الحديث وبادر إلى إعلان هذه الخلافة الموعودة في 29 يونيو 2014، وهو نموذج يمثل طفرة الجنون في توظيف الدين في معارك السياسة، تم ذلك حين تم اتحاد فرعي القاعدة في العراق والشام وتم تشكيل ما عرف بـ الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، وتمت في حينها مبايعة أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين،- كما يزعمون – وأعلن الناطق الرسمى أبو محمد العدناني أنه تم إلغاء اسمى العراق والشام من مسمى الدولة، ووصف حدود الدولة بأنها صنم أزيل على يد مقاتليها. طبعاً كان إعلان داعش خلافته استلهاماً واضحاً لنص الحديث السابق واتضح ذلك في النصوص الدعائية لهذا التنظيم الذي وظّفت هذا الحديث إلى أبعد مدى لاقناع الناس بمشروعها السياسي ولجلب الشباب والمتطوعين للمناطق التي سيطروا عليها. لن نخوض هنا في مفارقات ما تجسد في أرض الواقع من نموذج خلافة داعش مع مايرتبط مع مفهوم الخلافة الراشدة من إقامة للعدل والأمن والأمان والتواد والتراحم كما عرفها المسلمون في النموذج الأول والناصع زمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لكننا سنخوض في مبحث حديثي يناقش صحة هذا الحديث من أساسه وبالتالي بطلان كل ما يبنى عليه من تصورات وتشكيلات.
الحديث رواه أحمد في مسنده : حدثنا سليمان بن داود الطيالسّي، حدّثني داود بن إبراهيم الواسطي، حدّثني حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، قال حذيفة، الحديث.
كما أورده البزار في مسنده حدثنا الوليد بن عمرو بن سكين، قال: أخبرنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: أخبرنا إبراهيم بن داود، قال: حدّثني حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، قال حذيفة بن اليمان، الحديث.
ويتضح في رواية البزار خلط يعقوب بن إسحاق وقلبه لاسم الرواي من “داود بن إبراهيم” إلى “إبراهيم بن داود” بينما الصحيح “داود بن إبراهيم حسب الرواية التي وردت عند أحمد
الراويان حذيفة ابن اليمان والنعمان بن البشير صحابيان والصحابة عدول على ما قرّر أهل الجرح والتعديل، والثالث في السلسلة وهو حبيب بن سالم كان كاتب النعمان بن بشير كما ورد في تاريخ ابن معين، وقد ذكره البخاري في تاريخه الكبير على أنه كاتب ومولى النعمان بن البشير وقال أن فيه نظر، ومع ذلك يعتبر راوي ثقة إلا أن فيه لين وقد روى عنه مجموعة من الرواة إلا البخاري.
الإشكالية الحقيقية في هذا الحديث تبدأ مع الراوي الرابع في سلسلة رواته وهو داود بن إبراهيم، والذي وقع فيه الالتباس والوهم عند أهل الجرح والتعديل فورد في كتبهم بأسماء مختلفة وهي:
داود بن إبراهيم الصنعاني (زوج أخت عبد الرزاق صاحب المصنّف، يروي عن طاوس ووهب، وهو ثقة، وليس له علاقة بهذا الحديث)
داود بن إبراهيم الباهلي. ( روى عن الزهري وهو مجهول كما قال الذهبي في ميزان الاعتدال، وليس له علاقة بهذا الحديث)
داود بن إبراهيم قاضي قزوين (روى عن شعبة: متروك الحديث كان يكذب كما جاء في الضعفاء والمتروكون لابن الجوزي)
داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي (روى عن خالد بن عبد الله: مجهول كذاب كما قال الأزدي في كتاب الضعفاء)
داود بن إبراهيم الواسطي (يروي عن حبيب بن سالم: وثقه الطيالسي وروى عنه هذا الحديث)
بعد الدراسة والتمحيص في نسب وشيوخ الأسماء الخمسة يتضح جلياً أن وهما كبيراً وقع في كتب الجرح والتعديل في الأسماء الثلاثة الأخيرة، إذا أنها أسماء لشخص واحد واُعتقد خطأ أنهم أشخاص مختلفون.
فداود بن إبراهيم قاضي قزوين هو نفسه العقيلي، فقد جاء في أحد أسانيد ابن عساكر في تاريخ دمشق أن محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس الرازي قال: حدثنا داود بن إبراهيم العقيلي قاضي قزوين قال: حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي، كما جاء في التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة للسخاوي أن إمام جامع قزوين جعفر بن محمد بن حماد قال: حدثنا داود بن إبراهيم العقيلي القاضي بقزوين.
كما أن داود بن إبراهيم قاضي قزوين العقيلي هو نفسه الواسطي، فقد قال ابن الجوزي في كتاب الضعفاء والمتروكين: داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي يروي عن خالد بن عبد الله، قال عنه الأزدي مجهول كذاب، كما ذكره ابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير وأشار لكون قاضي قزوين هذا من أهل واسط.
فداود بن إبراهيم الواسطي الذي ذكرنا أنه وُثق من طرف الطيالسّي هو نفسه داود بن إبراهيم قاضي قزوين، الذي قال عنه الرازي متروك، كان يكذب، وهو نفسه داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي الذي قال عنه الأزدي: كذّاب، وقد أشار الحافظ المزي في تهذيب الكمال في أسماء الرجال: إلى هذه الشخصية الملتبسة بكنياتها الثلاث بهذا الصياغة: “داود بن إبراهيم العقيلي الواسطي قاضي قزوين” مزيلا بذلك هذا الإشكال. وزاد هذا الأمر وضوحاً الرافعي القزويني حين ترجم له في كتابه التدوين في أخبار قزوين قائلا:”داود بن إبراهيم العقيلي أبو سليمان الواسطي كان قاضياً بقزوين من قبل الرشيد ثم من قبل الأمين والمأمون… مات سنة أربع عشرة ومائتين بقزوين، ودفن به”
وبهذا يتضح أن علماء الجرح والتعديل وجدوا أنّ داود بن إبراهيم قاضي قزوين متروك وكذاب، فقسموه وهماً إلى ثلاثة أشخاص، وقالوا: داود بن إبراهيم قاضي قزوين: كان يكذب، وداود بن إبراهيم الواسطي ثقة وثّقه الطيالسّي، وداود بن إبراهيم العقيلي: متروك كذاب، رغم أن داود بن إبراهيم هذا، ومثلما بيّنا بالأدلّة، ومثلما أشار الحافظ المزي والرافعي القزويني هو نفسه قاضي قزوين وهو نفسه العقيلي وهو نفسه الواسطي، وهو نفسه المتهم بالكذب ووضع الحديث، وقد يتم الاعتراض أن توثيق الطيالسي له كافي لاعتبار حديث الخلافة الذي رواه صحيحاً، ويتعرض على هذا بأن الطيالسي من أئمة الرواية وليس من أئمة الجرح والتعديل فلا يأخذ بتوثيقه له، كما أن من قواعد علم الدراية أن الجرح مقدم على التعديل، ولا يغلب تعديل واحد تجريحين خصوصاً إذا كان الجرح مفسراً، وأشده أن يكون مفسراً بكذب الراوي، كما هو الحال في هذا الحديث، وتجدر الإشارة إلى أن داود ابن ابراهيم هذا ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، وهو ما قد يستخدمه البعض في الدفاع عن صحة الحديث، والرد على هذا يسير، إذ أن ابن حبان يعرف بين علماء الدراية بكونه من المتساهلين، وهو نفسه ( ابن حبان) خلط في كتاب الثقات بين داود بن ابراهيم الصنعاني الذي أشرنا لكونه ثقة، وبين داود بن ابراهيم الواسطي قاضي قزوين الذي روى عنه الطيالسي وهو كما أشرنا متروك الحديث.
بهذا يتضح مدى وهن هذا الحديث وضعفه فهو زيادة على كونه حديث آحاد انفرد بن داود ابن ابراهيم لا يعتمد في الاستدلال في مثل هذه المسائل التي تتعلق بها مصائر الأمة، فهو حديث موضوع لا صحة له، وبالتالي يتضح مدى تداعى الأطروحات الفكرية والسياسية التي تعتمد هذا الحديث سنداً لها في تبرير أحلام يقظتها باستعادة الخلافة الضائعة، في مشهد صرع فكري -إن صح التعبير – غريب عن واقع العالم وما يستجد فيه من أنظمة وما تحكمه من قوانين.
وتجدر هنا الإشارة أن هناك حديثاً آخر يقترب معناه من هذا الحديث وهو المروي عنه صلى الله عليه وسلم: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي اللهُ مُلكه من يشاء». والذي ورد بطرق عديدة لا يخلو أكثرها من طعون قوية في سندها ليس هنا مجال تفصيلها، وهو الحديث لم يذكر خلافة ثانية تأتي وتكون على منهاج النبوة بعد الخلافة الأولى كما فعل الحديث الثاني الذي ناقشناه. وبالتالي يطرح أمام من يستند لهذا الحديث لتبرير خلافة داعش أو للحلم بعودة الخلافة يوماً السؤال التالي: هل يجوز الاعتماد على حديث موضوع في بناء مشروع سياسي يتعلق به مصير الأمة ومصير دينها؟
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.