قال صلى الله عليه وسلم: (سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه
تعددت الأحاديث النبوية الشريفة التي تحدثت عن الخوارج حتى بلغت الأحاديث المسندة حد 44 حديثاً، وقد رُويت هذه الأحاديث عن طريق 24 صحابياً، منها 3 أحاديث مروية عن علي بن أبي طالب، و5 أحاديث عن أبو سعيد الخدري، وأربع عن كل من أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم. إلا أنه لم يصح منها سوى 27 حديثاً وصل بعضها لحد التواتر، واتفق على بعضها الشيخان. بينما رُدّ 17 حديثاً وصنفت ضعيفة بسبب ضعف في أسانيدها أو خرم في متونها، قال الإمام أحمد ابن حنبل في هذا المضمار : “صح الحديث عن الخوارج من عشرة أوجه وقد خرّجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها”.
وقد فصّلت مجمل هذه الأحاديث في صفات هذه الفرقة التي تنبأ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بظهورها في أمته وحذّر منها أشد تحذير؛ لعظيم خطرها، وسرعة الاغترار بها، وقد اختلفت تعاريف العلماء لخصائص ومعرّفات هذه الفرقة، وما يمكن الخروج به من بين تلك التعاريف أن الوصف الجامع للخوارج هو “تكفيرهم المسلمين بغير حق واستحلال دمائهم بذلك”، وهذا التكفير له صور كثيرة: كتكفير مرتكب الكبيرة أو بمطلق الذنوب، أو التكفير بما ليس بذنب أصلاً، أو التكفير بالظن والشّبهات والأمور المحتملة، أو بالأمور التي يسوغ فيها الخلاف والاجتهاد، أو دون التّحقق من توفر الشروط وانتفاء الموانع، وبالتالي استحلال الدماء كنتيجة حتمية لهذا التكفير.
وقد برز الحديث عن الخوارج وصفاتهم في أدبيات المسلمين منذ أن بدأت حركات التطرف تتغلغل في المجتمعات الإسلامية منذ نشأة حركة التكفير والهجرة في مصر في منتصف السبعينات، والتي اقترنت معها المقاربة بين هذه الظاهرة الناشزة وظارهة الخوارج التي برزت في زمن الفتنة الأولى بين علي رضي الله عنه ومعاوية سنة 36 للهجرة، وتوالى استجلاب هذه المقارنات والمقاربات كلما ظهرت فرقة متطرفة جديدة في بلادنا الإسلامية التي ابتليت بكثرة هذه الشوائب في الآونة الأخيرة. في هذا السياق؛ نورد مقاربة ومقارنة بين مجمل الصفات التي وردت في 27 حديثاً الصحيحة مع ما نعرفه من حال داعش والجماعات الجهادية المتطرفة التي تنحو نحوه والتي تفرض علينا استقراء التاريخ لفهم هذا العضال وأسسه ومنطلقاته وتشابهاته مع ظاهرة الخوارج التاريخية، وما إذا كان تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ينطبق على هذه داعش ومثيلاتها أم لا.
من خلال الدراسة التحليلية لمجمل الأحاديث الواردة في الخوارج، ومحاولة استخراج المشتركات بينها يتضح أن مجملها ذكر وكرر جملة من الصفات التي ستظهر في الخوارج الذين حذّر الني الكريم من ظهورهم، والغريب في الأمر أنها تتوفر وفي مجملها في أدبيات وتفاصيل ونظم داعش وما لفّ لفّها من حركات:
– تشير مجمل الأحاديث لإحدى صفات الخوارج وهي الحكم بكفر كافة المسلمين وعلى بلاد المسلمين بأنها بلاد كفرٍ وردة، وإيجاب الهجرة منها إلى مناطق سيطرتهم ونفوذهم، وهو ما تفعله داعش تماماً بتكفيرها لكافة المسلمين و بالدعوة إلى الهجرة إلى المناطق التي تسيطر عليها عبر أبواقها الإعلامية من صحيفة دابق وغيرها.
– الحكم على من خالفهم بالكفر والردة، ورميهم بالخيانة والعمالة للكفار، بالشُّبه، وهو ما تجسده داعش وغيرها من الحركات بقتل من يرفض الانضمام لهم، بل وقتل حتى من يتردد في ترديد شعاراتهم كشعار ” دولة الإسلام باقية” الذي قُتل المئات ممن رفضوا ترديده، بالرغم من أن الامتناع عن ترديده ليس ذنباً. وهو الأمر نفسه ما فعله الخوارج أيام الإمام علي حين كفّروا الصحابة بقبول التحكيم، مع أنه ليس بذنبٍ أصلاً.
– أشارت بعض الآيات إلى كون الخوارج يستدلون بقتلهم للمؤمنين بالآيات الدالة على قتل الكفار، وهو ما حدث حقاً زمن ظهور الخوارج، وتحدّث عنه ابن عمر رضي الله عنه قائلا : (( انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين ))، وهو ما يظهر جلياً في الانتاج العلمي للحركات المتطرفة المعاصرة وكتبهم حيث يسقطون تلك الآيات على المسلمين ومن ثمة يصدرون فيهم أحكام غير المسلمين.
– أشارت الأحاديث النبوية الصحيحة لحداثة أسنان المنتمين لهذه الفرقة، وهو أمر تفسره الطبيعة الاندفاعية لروح الشباب دون ترزن وروية، وقد أشارت أغلب الدراسات كدراسة المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي أن أغلب المنتمين لداعش والنصرة من أوروبا تترواح أعمارهم حول سن العشرين، بينما أثبتت دراسة لمركز مكافحة التطرف بفرنساCPDSI أن 30 بالمئة من المتطرفين في فرنسا تقل أعمارهم عن 18 سنة و 39% منهم مابين 18 و21 سنة و31 % ما بين 21 -28 سنة، .
– اتفقت أغلب الأحاديث على وصف الخوارج بكونهم سفهاء الأحلام، أي صغيري العقول والمدارك، مع فهم غريب وعقيم للواقع، وهو ما تجسده داعش بإعلانها لما سمته بالخلافة الإسلامية في غياب تام لفهم الواقع السائد في العالم الذي تسوده القوى الغربية والتي لن تسمح بقيام مثل هذه الأمور، وتشهد شهادات التائبين من داعش على كونهم كانوا مغيبين عقلياً ولا يعون شيئاً مما يعملون.
– وصفت الأحاديث الشريفة الخوراج بأنهم يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن يحسبون أنهم لهم وهو عليهم، وقد تجسّد ذلك في أول لحظة خروجهم عن الإمام علي حين فسروا قوله تعالى:” إن الحكم إلا لله” بما لا يعينه النص الكريم، ولازال ذلك يتكرر مع النسخ الحديثة لهم من داعش والقاعدة مع آيام ونصوص كثيرة كنصوص الحاكمية في القرآن الكريم والأحاديث السياسية الواردة في السنة الشريفة.
– أشارت معاني العديد من الأحدايث إلى ضحالة فهم الخوارج للإسلام وفقههم الضعيف لدين الله، وهو ما تجسّد تاريخياً في الخوراج الذين لم يكن مِن بينِهم رجلٌ واحدٌ من صحابة رسول الله من المهاجرين أو الأنصار، كما لم يبرز في تاريخهم عالم واحد اشتهر بالعلم والتأليف، واُعترف له بالتقدم في العلم. وقد أثبتنا في دراسة سابقة لنا أجرينها على 50 قيادياً من دعاة التطرف أن ثلاثة منهم فقط نالوا تعليمياً دينياً وصلوا به درجة الدكتوراه، والباقون تراوحو بين تخصصات الهندسة والطب والإدارة، والعمل الأمني، ولم يتلقوا تكويناً عميقاً في علوم الدين بما يتحقق معه الفهم الصحيح والمتكامل لتعاليم الإسلامي، وقديماً قال الفقهاء” من زاد علمه قلّ انكاره” وبالتالي ” من قلّ علمه زاد انكاره على الناس”، وقد خاطب ابن عباس رضي الله عنه أسلافهم من الخوارج: ” أتيتُكُم من عندِ صحَابَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، مِنَ المهاجِرينَ والأنصارِ… وفيهِم أُنزِلَ، ولَيسَ فيكُم منهُم أحَدٌ” مما يدل على عمق جهل هؤلاء بالدين.
– تحدثت الأحاديث الشريفة عن الخوارج واصفة لهم بكثرة العبادة، وهذه الصفة في الحقيقة لا تتجلى بوضوح في شباب داعش الذين اشتهروا بالغطرسة والتبجح، وهو أمر يمكن تفسيره حين نعرف أن أزيد من 60% ممن التحق بداعش من أروربا مثلا كانوا من ذوي سوابق اجرامية تتعلق بالمخدرات والسرقة ولم يكن لهم ماضي ديني عميق، حسب دراسة أجراها المركز الدولي لدراسات التطرف والعنف السياسي بجامعة كينغس ببريطانيا. بينما تتجلى ظاهرة كثرة العبادة في غيرهم من اتباع الحركات المتطرفة الأخرى كالقاعدة والنصرة وغيرهما.
– تحدثت الأحاديث الشريفة عن تعمق الخوارج في الدين حتى يخرجوا منه، ولا يخفى ما عليه حال بعض المتطرفين من تدين شديد حيث وصفهم جندب الأزدي صاحب علي بن أبي طالب بأن لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن وأن فيهم أصحاب البرانس – أي الذين كانوا معروفين بالزهد والعبادة- هذا الالتزام الشديد دفع الكثير منهم للتزمّت في الالتزام بحدود الدين، إلى حد منفّر، ويرى ذلك بوضوح في أدبيات دعاة التطرف والعنف المعاصرين.
– وصفت الأحاديث الشريفة الخوارج بكونهم يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان، وهو ما جسّده الخوارج أيام ظهورهم حين كانوا يغيرون على قرى المسلمين، ويدعون قرى المسيحين بدعوى أنهم أهل ذمة وعهد، ولازالت تجسده الحركات الجهادية المتطرفة في يومنا هذا بشكل حرفي، حيث يسقط بسلاحها من المسلمين أضعاف ما يسقط من غير المسلمين، إذ تشير احصائيات سنة 2014 إلى أن 80% من ضحايا العلميات الإرهابية المسجلة سقطوا في 5 دول كلها مسلمة وهي العراق وسوريا وافغانستان وباكستان ونيجيريا، كما أن أن 78% من نسبة الوفيات في خمس دول إسلامية وهي: العراق ونيجيريا وافغانستان وباكستان وسوريا، سنة 2014 كانت بسبب أعمال ارهابية. بينما لم يسمع مطلقاً عن مخطط لهم معلن أو سري لضرب اسرائيل مثلا التي من المفترض أنها العدو الأول لدعاة الجهاد.
– تحدثت الأحاديث عن خروج الخوارج عن جماعة المسلمين و طعنهم في أمراء وولاة أمور المسلمين، وهو مما يعتبر ركيزة في كافة الخطاب الجهادي المتطرف، حيث تقوم دعوتهم على الخروج عن الأنظمة الحاكمة وبها يسوّقون اجنداتهم.
– أشارات الأحاديث الشريفة إلى ظهور الخوارج في زمن فرقة المسلمين، وقد ظهروا حقاً زمن الخلاف بين علي رضي الله عنه ومعاوية، وتكرر ظهورهم في زمن فرقة وهوان الدول الإسلامية المعاصرة وتفكك الروابط السياسية والاجتماعية التي كانت توحّد المجتمعات العربية كما هو عليه الحال في العراق وسوريا، حيث برز داعش كنتيجة لإعادة احياء الصراع السني الشيعي بعد سقوط بغداد سنة 2003، وظهرت طالبان بعد اختلاف حركة المجاهدين في افغانستان حول الحكم بعد دحر السوفيات…
– تشير معاني الأحاديث إلى كون الخوارج لا يرون لأهل العلم والفضل مكانة إذا خالفوا رأيهم ومنهجهم، لذا يتجرؤن على تكفيرهم، وقد فعلوا ذلك حين كفروا علياً وزعموا أنهم أعلم منه وأعلم من ابن عباس و سائر الصحابة وحصل منهم من الأذية للصحابة ما حصل، والأمر نفسه يتكرر مع هذه الجماعات، حيث لا يظهرون أي احترام لعلماء الإسلام الذين اشتهروا بالعلم كما لا يولون أي تقدير واعتبار للمؤسسات العلمية الشرعية العريقة كالأزهر وغيره.
– تشير بعض الأحاديث أيضا لصفة من صفات الخوارج وهي كثرة الاختلاف فيما بينهم، وقد تجسد ذلك قديماً في تفرقهم لجماعات عديدة أحلت دم بعضها البعض، والأمر يتكرر نفسه مع داعش وجبهة النصرة، وتكرر من الجماعات المسلحة التي ظهرت في الجزائر في التسعينات من القرن الماضي، ويتكرر وبشكل متواصل مع الجماعات المتطرفة في الصومال وغيرها.
– التوسع الرهيب في سفك الدماء، والتفنن في فنون القتل والقصاص حتى أنهم كلما استبشع الناس طريقة قتل فاجؤوهم بطريقة جديدة مبتكرة تجعلهم يترحمون على الطريقة القديمة. فمِن ذبْحٍ لحرْق لضرب بالقذائف لغيرها من الأساليب المعتادة لديهم، وهو تماما ما جسده الخوارج حين ظهورهم زمن الإمام علي، حيث كانوا يروعون الناس بطرق للقتل تشيب لها الرؤوس كما فعلوا مع الصحابي الجليل عبد الله بن خباب حين قتلوه وبقروا بطن زوجته الحامل.
تثبت هذه المقاربات الستة عشر تطابق صفات وأعمال داعش والجماعات المتطرفة التي تنحو منحاها مع صفات الخوراج الذين ظهروا في لحظة اظطراب في الدول الإسلامية، وزادوا هذا الاضطراب عمقاً وأثراً، كما ظهرت الجماعات المتطرفة المعاصرة في لحظة ضعف عام في العالم الإسلامي وفي لحظة استهداف شامل لما تبقى من وحدته ومقوماته وثرواته، مما يضعنا أمام سؤال لصالح من يعمل هؤلاء؟!!!
*الدكتور طارق العجال هو استاذ للتاريخ بجامعة عفت بمدينة جدة.